الأمومة والأبوّة بين الغريزيّ والمكتسب

الأمومة والأبوّة بين المتعة والتّحديّ

    نبيلة اسبانيولي                                                                                                

 

إعتدنا الحديث عن التّحدّيّات الّتي تواجه الأمّهات والآباء في مسار تربية الأطفال، لكنّنا في أحاديثنا المهنيّة لم نعتد الحديث عن المُتَع المرافقة لذلك!!  فهل الأمر صدفة؟ وهل يمكن الحديث عن الأمومة والأبوّة (المسمّاة عنوة "الوالديّة") دون ذكر المتعة؟ هل يمكننا تصوّر تربية الأطفال دون المتعة المرافقة لها؟  هل يمكننا القول أنّ الأمومة والأبوّة غريزة، وبني البشر ذكورًا وإناثًا مُعَدّون غريزيًّا لرعاية أطفالهم؟ وإذا كان كذلك فكيف يمكننا تفسير الأخطاء الفادحة الّتي يرتكبها بعض الأهالي في حقّ أطفالهم؟ كيف يمكننا تفسير الإساءات المتنوّعة الموجّهة من الأهل للأطفال: إساءات جسديّة، نفسيّة، جنسيّة وعاطفيّة؟

 

واضح من التّساؤلات الّتي أطرحها هنا أنّني شخصيًّا ومهنيًّا لا أعتقد أنّ الأمومة أو الأبوّة غريزة فقط؟ ربّما الأجزاء المتعلّقة بها كالرّعاية في الأشهر الأولى والعناية بالطّفل هي كذلك! ربّما الغريزة هي في المحافظة على البقاء!  بتصوّري أنّ الأمومة والأبوّة بالإضافة إلى كونها غريزة هي دور اجتماعيّ نتعلّمه ضمن سياق ثقافيّ معيّن، لذا فنحن نشهد أنماطًا مختلفة من الأمومة والأبوّة في المجتمعات المختلفة.

ولأنّ الأمومة والأبوّة هي دور مجتمعيّ نتعلّمه ونقوم به فإنّنا نستطيع التّعامل مع السّلوكيّات المركّبة له ونستطيع توضيح أيًّا منها غريزيّ وآخر مكتسب. ويمكننا فحص إمكانيّة تعلّم سلوكيّات جديدة أو تغيير سلوكيّات قائمة.  إذًا فالأمومة والأبوّة ليست فقط غريزة، وعليه فإنّه ليس كلّ إنسان يولد جاهزًا للقيام بدور الأمّ أو الأب.

إنّ العلاقة بين الغريزيّ والمكتسب في تحديد أنماط الأمومة والأبوّة هي علاقة جدليّة وممّا لا شكّ فيه أنّ شخصيّة الفرد ومبناه النّفسيّ يؤثّر تأثيرًا كبيرًا على دوره المستقبليّ ليكون أبًا أو أُمًّا،  لكنّ التّجارب الحياتيّة وما تقدّمه من نماذج وخبرات، معارف ومهارات هي أيضًا عامل مهمّ في تحديد كيفيّة آدائنا كوالدين.

 

الأمومة والأبوّة هي أدوار اجتماعيّة تتداخل في بلورة سلوكيّاتها كلّ من المبنى الشّخصيّ للفرد وتجاربه الحياتيّة والمعارف والرّسائل والنّماذج الّتي تعرّضنا لها في مسار الحياة والّتي ذوّتنا جزءًا منها بشكل واعٍ أو غير واعٍ. 

وقد أظهرت الأبحاث مدى تأثّر الأدوار الإجتماعيّة بمسار التّنشئة الإجتماعيّة الّتي نحصل عليها ودورنا كجزء من وكلاء التّنشئة الإجتماعيّة في بلورة هذه الأدوار، وبالإضافة لنا يشارك في مسار التّنشئة هذا العائلة، المجتمع، وسائل الإعلام، المدرسة ومؤسّسات المجتمع المختلفة.  لذلك  لا يمكننا إحداث تغيير أيّ تغيير دون تضافر الجهود بين وكلاء التّنشئة المختلفين.

 

والتّغيير الأفضل هو الّذي يبدأ من الذّات، لذا فأنا لم أستخدم هنا مصطلح الوالديّة للدّلالة على دور الأمّ والأبّ بل فضّلت استخدام المصطلحين الأمومة والأبوّة وذلك ليس لاعتقادي أنّ الدّورين مختلفان وأهمّيّتهما مختلفة، بل لاعتقادي بتميّزها وعليه فلدى استخدام أيّ مصطلح آخر فإنّ الصّيغة اللّغويّة الذّكوريّة تستخدم (الوالدين، الأهل،..) وهي تنمذج الدّور، وتقتصره على جنس دون آخر وعليه فقد فضّلت استخدام "الأمومة والأبوّة".

 

الأمومة والأبوّة إذًا هما غريزة وأدوار اجتماعيّة معقّدة تترافق بمتَع وتحدّيات كأيّ دور اجتماعيّ نقوم به. ولعلّ الجهد الأكبر هو إدراك مدى تداخل العوامل المؤثّرة علينا ومدى التّعقيد المرتبط بهذا الدّور الإجتماعيّ الملقى على عاتق الأغلبيّة بيننا، وارتباط مهامه في العديد من الأحيان بمشاعر مترابطة ومتناقضة بالأمر نفسه كارتباط المتعة من التّربية بالتّحدّيات العديدة:

ما بين المتعة والتّحدّي:

إنّ الفكرة النّمطيّة السّائدة عن الأمومة والأبوّة تحرّم العديد من الآباء من التّمتّع بدورهم كآباء،  فمن غير المتوقّع منهم اجتماعيًّا أن يأخذوا دورًا فعّالاً في الرّعاية والعناية والتّربية، ومن يحاول تغيير ذلك لا يجد فقط مقاومة اجتماعيّة بل من شأنه أن يجد أيضًا مقاومة من شريكة حياته الّتي ذوّتت بدورها التّقسيم النّمطيّ للأدوار عبر مسار تنشئتها الإجتماعيّة، كما وأنّ الفكر النّمطيّ السّائد المذوّت من غالبيّة أفراد المجتمع يتوقّع من الأمّ القيام بأدوار الرّعاية والعناية والتّربية بشكل يمنعها من اكتشاف قدراتها ومهاراتها الأخرى وتحقيق ذاتها ممّا يؤدّي في العديد من الأحيان إلى إحباط وتعامل نمطيّ مع الدّور ممّا يقف كحجر عثرة أمام تطوّرها، ويؤثّر ذلك على العلاقة الزّوجيّة والأسريّة في العديد من الأحيان.

 

غالبًا عندما نتحدّث عن دور الأب والأمّ بالتّربية نركِّز على التّحدّيات (الصّعوبات) المرافقة للمسار ونغفِل المُتَع المرافقة له، ربّما لأنّنا نبحث عن طرق أفضل للتّعامل، ربّما لأنّ المتع مفهومة ضمنًا ولا حاجة لفهمها،.. إنّ تغييب المُتَع برأيي هو غبن، وأيضًا فإنّ التّحدّث عن المُتَع بشكل مثاليّ هو أيضًا لا يقدّم صورة واضحة عن الوالديّة. وما أودّ استعراضه هنا هو التّرابط والتّناقض بين المتعة والتّحدّيّ، لعلّي بهذا أفي الموضوع بعض حقّه:  فلنبدأ بمتعة مرافقة النّموّ، نموّ الطّفل/ة، الطّفل من نطفة إلى جنين، نموّه من مخلوق صغير يحتاج  إلينا في تلبية أغلب حاجاته المختلفة، لفرد مستقلّ متميّز وما يرافق ذلك من متع متنوّعة، مثل:

*    متعة مُرَافَقة مُتَع الطّفل/ة، مرافقة متعته/ا عندما يدرك/تدرك يديه/ا ورجليه/ا ويلعب ويتلاعب/تلعب وتتلاعب بهما، ومتعته/ا عندما يدرك/تدرك مقدرته/ا على تحريك الأغراض حوله/ا، ومتعته/ا بمقدرته/ا الوصول إلى الأشياء، كمتعته/ا للوصول إلى غرض على الطّاولة بعد أن جرّب أساليب مختلفة إلى أن وصل/ت إلى حلّ ذكيّ وترجمه/ترجمته إلى سلوك، فسحب الشرشف الموضوع على الطّاولة ساعده/ا في تقريب الغرض إليه/ا وإمساكه/ا، ومتعته/ا بإنجازه/ا لأمر معيّن ومرافقة هذه المُتَع هي متعة بحدّ ذاتها:  متعة التّعلّم مع الطّفل ومن الطّفل عن الطّفل وعن ذواتنا.

*    كما أنّه بالوقت نفسه تحدًّ: تحدّ لإدراكنا بدوافع الطّفل وحبّ الإستطلاع لديه، تحدًّ للحفاظ على أعصاب هادئة عندما نرى الطّفل يحاول الوصول إلى الغرض الّذي وضعناه على الطّاولة والشّرشف لتجميل غرفة الجلوس، وندرك أنّه يحاول حلّ إشكاليّة أمامه وليس "التّخريب" كما يعتقد البعض.

*    متعة اللّعب مع الطّفل والتّمتّع معه خلال لعبه والتّحدّي المرافق لذلك بوضع حدود.. فالطّفل يحبّ اللّعب دائمًا والتّحدّي أمامنا أنّنا لا نستطيع إشباع هذه الرّغبة دائمًا وأنّنا نستطيع اللّعب في أوقات معيّنة.

*    متعة إنجاز فعاليّة معيّنة ومرافقتنا لهذه المتعة يكمن فيها تحدًّ بعدم فرض برنامجنا على الأطفال وعدم ضغطه بتوقّعات أعلى من مقدرته، تجعله يشعر بأنّه خاسر دائمًا وأنّ لا فائدة من المحاولة، التّحدّي في المحافظة على التّوازن ما بين الحثّ والتّشجيع وبين الإنجاز بكلّ ثمن.

*    متعة مُرَافَقة  تجارب الطّفل الأولى مع ذاته ومع من وما حوله وشعوره بقدراته الذّاتيّة ودافعيّته لعمل الأشياء بمفرده، متعة مرافقته وهو ينفّذ رغبته وإصراره على الأكل بقواه الذّاتيّة مثلاً أو اختياره لملابسه بنفسه، والعديد من السّلوكيّات المعبّرة عن إدراكه لقدراته ورغبته بالإستقلاليّة.  هذه المتعة ترافَق أيضًا بتحدًّ لدى الأمّ والأب، تحدّيّ تقبّل الطّفل كما هو بوتيرته دون منعه من التّدرّب على اكتساب هذه المهارات وتملّكها، تحدًّ في احترام رغبات الطّفل وأخذها بعين الإعتبار دون تدليله،.. وتحدّيات أخرى كثيرة خاصّة إذا أضفنا إلى تفكيرنا العوامل الخارجيّة الّتي تؤثّر علينا وعلى أطفالنا وعلى العلاقة بيننا وعلى الشّروط والإمكانيّات الّتي يمكننا توفيرها لنموّهم/نّ الأمثل، كالعوامل الإقتصاديّة وتأثيرها على الظّروف الإقتصاديّة للعائلة من فقر وبطالة وشروط عمل ضاغطة،.. والعوامل السّياسيّة كالإحتلال وعدم الأمان والعيش في ظلّ سياسيّ خانق،..

 

أسئلة إضافيّة يمكننا التّفكير بها، مثلاً: كيف لنا أن نحافظ على مصلحة الطّفل الفضلى؟ وعلى حقوق الطّفل؟ ودعم تطوّره السّليم؟ كيف لنا المحافظة على التّوازن بين ذواتنا ومصالحنا الشّخصيّة وبين مصلحة الطّفل/ة؟ كيف لنا أن نربّي الطّفل على قيم مغيَّبة في البيئة الّتي حولنا؟  وكيف لنا مع كلّ هذه التّساؤلات الإستمرار بالتّساؤل والمحاولة وعدم الخوف من المحاولة والإستمرار بالتّمتع وعدم تغييب أيًّ من هذه العناصر.

 

 



[1] نشرت هذه المقالة في نشرة همسة وصل الصادرة عن مشاركة