"على شوقٍ لأيام غوالٍ: لقطات من مفكرة معلم "

 

المدرسة "الشكيبية" في التعليم كما تنعكس في الكتاب.

 

يُطلعنا طيِّب الذّكر الشّاعر شكيب جهشان في معرض تقديمه لكتابه "على شوقٍ لأيام غوالٍ" بأن دافِعَه لكتابة هذا الكتاب هو الحنين:

"الحنين إلى زمان مضى،

 والحنين إلى مكان راح مع الزَّمان، وإن ظلَّ باقياً في العين...!!

والحنين إلى الناس التي تقلّبت بهم الحياة...!! [1]"، 

 

دافعا آخر لكتابة "على شوقٍ لأيام غوالٍ" كان الاستذكار: ف "الاستذكار محاولة حلوة للاسترجاع والمعايشة...وأنا أحببت تلك الأيام ...ولذا فقد أحببت أن أعايشها مرة ثانية".    ونحن إذ نحنّ إليه، نتذكر ونستذكر لعلنا نعيد بعضا مما عايشناه،  ولنتذكر ونستذكر الواقع الذي عايشه جيل الشاعر وما تركه من أرث ثقافي للأجيال القادمة. 

 

لم أعايشه, لسوء حظي, كمعلِّم أو زميل، ولم أكتب الشّعر أو الأدب ليرافقني رحلتي، وعلاقتي به كانت كصديقٍ, وأخ وزوج لصديقة, كان أباً لرفاق, ورفيقَ درب,  ومحرراً لغوياً لبعض كتبي المهنية, وشريكا في بعض مشاريعنا في مؤسَّسة حضانات الناصرة – مركز الطّفولة، عندما أصدرنا شعره في كتاب للأطفال بعنوان  "طيَّارة حراميّة" وترجم لنا, شعراًً: كتاب "السّمكة التي ما أرادت أن تكون سمكة"  ومشاريع أخرى عديدة  دَعَمنا فيها لغويّاً ومعنويّاً.

 

في كلّ هذه التَّجارب تتلمذت على يديه، وأكثر ما أثَّر فيَّ كان تواضعه وصدقه.

 

حين قرأت الّلقطاتِ من مفكّرَة معلِّم  في الإتحاد، وقبل أن تصبح كتابا، راودتني فكرة تحليل هذه الِّلقطات واستيضاح نهج العمل الذي استنار به الشّاعر المعلِّم شكيب، والتي جعلته معلّماً ناجحاً وجعلت نهجه مدرسة يمكننا الإستفادة منها ونبراسا للمعلِّمين والمعلِّمات من بعده, وقد شاركته في هذه الفكرة في ذلك الحين فرحَّب بفرحته المعهودة.

وها أنا اليوم أوفي الوعد[2].

 

تحليل النصوص

يتمركز تحليل النص هنا في كل ما يتعلق بنهج الشاعر كمعلّم محاولة استخلاص المبادئ التي اعتمدها ومحاولة مني لاستيضاح معالم المدرسة "الشكيبية" في التعليم.  وإنني أدعو كل الناس للعودة الى الكتاب للاطلاع على الباقي ففي الكتاب تاريخ المرحلة وتأريخ للمعاناة التي عاشها هذا الجزء المتبقي في وطنه وبكلمات الشاعر: "لقد حاولت أن أوضح للذين لا يعرفون...كيف عمل هذا الجزء من شعبنا، المتبقي في ترابه... كيف عمل بأظافره وبنبضاته وبأنفاسه، ليثبت له مكانا تحت الشمس."

 

متى تصبح معلما؟

يُشاركنا الشاعر بتجربته الأولى مع التعليم في المدرسة "الا" مدرسة ولكن الملفت للتفكير انه يعتبر نفسه معلما فقط بعد التجربة الثانية ويصف مسار تبلور المعلم داخله : عندما بدأت تتولد "أحاسيسك الدفّاقة نحو طلابك...أبناء شعبك."  عندها أصبح معلما.

 

الرسالة:

والمعلم يحمل رسالة: "فقد بدأت تتكوَّن في صدرك رسالة ...إنّك تعلّم أبناء شعبك، وتساهم في بنائهم وفي ترسيخ جذورهم في هذه الأرض". 

إنه يستغرب ويستهجن قول بعضهم أننا  "أقليّة تبحث عن هويّة، تبحث عن انتماء"

ويسأل أولئك الذين يتوهَّمون أنفسهم بأنهم عِلْيَة القوم الثّقافيّة.

"هل كل هذا الوجود الممّتد إلى أعمق أعماق التّاريخ، بحاجة إلى شهادة وانتماء أو شهادة بهويّة؟

 عيب والله!"  

كلّ هذا التّراث الحضاريّ، المتكوّن على مدى آلاف السنين لا يكفي أن يكون شهادة مضيئة وناصعة؟!

مرة أخرى .. عيب والله!"

ويسأل  وما الحزن الجماعي، والحقد الجماعي والإحتفاء الجماعي،والشموخ والاعتزاز الجماعي  إن لم يكن إنتماءً وهويّة.

 

بهذا فإنَّ رسالته الأولى هي "تنمية الإعتزاز بالصّمود والإنتماء"

 ويفاخر بأنَّه على الرغم من أن الحكم العسكري "يحصي دقّات القلوب ولكنه لا هو ولا طلابه لم يمارسوا الإنكسار ولم يفقدوا البوصلة".  بل زاده الواقع إصراراً وتحدّياً، فهو معلِّم اللغة الذي يرى أنَّ اللّغة هي "الوعاء الحضاري والقومي"، "وعاء تاريخهم وثقافتهم"، "الوسيلة الأولى والصّادقة للتعبير عن مكنونات الصّدور"، "الرّابط الوثيق بين واقعهم المعاش وماضيهم المتأصِّل".

 

 ويبدع في أداء رسالته..... منتهِجا بذلك الأسس التالية:

أنها أسس التربية  الإنسانية فمعلمنا يصرح عنه وعن زملائه في مدرسة الرامة الثانوية: "أنكم تؤمنون، إيمانا لا أثر فيه لتردد، أن الإنسان هو الذخيرة وهو الأساس"

 

معلم متعلم  

لا يستطيع الإجابة على كل الأسئلة

يعتقد غالبية المعلمين/ات ان مهمتهم الإجابة على جميع الأسئلة، وان لديهم كل الإجابات.  هذا الاعتقاد مبني على فرضية أن التعليم هو تلقين، تلقين لمعلومات سابقة يعرفها المعلم وينقلها إلى طلابه.  

ولكن المعلم الذي يرغب في تعزيز قدرات طلابه على التعلم والذي يرى أهمية تعلم الطلاب كيفية توليد المعرفة وليس فقط استهلاك المعلومات يرافق طلابه في رحل استكشافية حياتية وتعلميّة ويتعلم معهم ولا يخفي انه وقف "عاجزا ومبهورا" أمام سؤاله" ولكنه يتمنى لو استطاع  "أن تضمه وتقبله وأن تضعه في حبّة عينك." 

أنها تجربة تعلمية مستمرة: "أنك تمارس تجربة جديدة وحلوة... تجربة معرفة البشر والغوص في أفئدتهم."  

 

الانطلاق من رغبات الطلاب

الانطلاق من رغبات ومستوى المتعلم هو مبدأ من مبادئ التعلم الفعال وذلك من منطلق ان الدافعية للتعلم تزداد اذا كان في مجال اهتمام المتعلم والملفت للنظر ان معلمنا يدرك هذا التحدي ويقرر بلن قاطعة انه: "لن يتأتى لك النجاح إلا إذا استطعت أن تقدم لطلابك ما يرغبون فيه، وما ترغب فيه أنت..."  وهذه الجملة الأخيرة "وما ترغب فيه أنت" هو مبدء أساسي للنجاح فان لم تكن مهتما بما تعلم فلن تستطيع مرافقة الطالب وإثارة دهشته وحب استطلاعه ودافعيته للتعلم.

 

التفكير النقدي

كما وكسبل لمواجهة محدودية المنهاج وما يتضمنه من محاولات لتعزيز شعور الطالبة بغربة عن لغته وأدبه  يقوم معلمنا بالربط بين النصوص والواقع المعاش وهكذا يعزز الرغبة في التعلم ومعالجة النصوص بشكل نقدي يعزز الارتباط باللغة والانتماء إليها فيتحايل على النصوص وينمي التفكير النقدي أيضا[3]

 

إثارة الدهشة

ولعل أحد الأسس الميسِّرة للتعلم هي إثارة الطلاب وإثارة دافعيَّتهم للتّعلُّم، وهذا ما نلمسه في نهج أستاذنا، فهو "يسعى إلى إثارة الدَّهشة لدى طلاّبه", ويزيد  "تنظر في عيون الطلبة فنرى فيها كثيراً من الدهشة التي قد تنقلب إلى محبة فتقرر أن تثير فيهم من هذه الدهشة أكثر فأكثر".

 

 المحبة ومقابلة المحبة بالمحبة:  

المحبّة لطلابه ولمهنته، ولزملائه ولشعبه هي مفتاح أساسي لنجاحه كمعلِّم.

فالمحبة هي "المفتاح السحري...، هي العطاء, هي التعامل الحميم مع الآخرين....، وهي الباب الواسع للانتماء القومي والإنساني....، وهي المحرك الأصيل للصفح والتسامح والسمو....، وهي شعلة المرح التي تمحو كل انفعالات التعصب والتشنج.....، فالمحبة تعلمك أن لا تفرق بين غني وفقير ولا بين وسيم ودميم ولا بين فتى وفتاة. " ويضيف "كانوا من الطراز الذي لا تملك إلا أن تحبه". "لقد أحببت طلابك حبا وصل إلى حد العبادة"

والمحبّة تترجم بممارسات إنسانيّة تملأ الكتاب وتعكس العديد من مبادئ التّربية الإنسانيّة.

 

احترام وتقدير الفرد وطاقاته وحقّه في توجيه الذّات والإعتقاد في قيمة كلّ فرد وأهميته، والمساواة وعدم التّفرقة

 فهو يؤكد على أن "لكل طالب جانباً إيجابياً مُضيئاً مهماً تراكمت فيه العيوب ومهماً كثرت المساوئ"  كما ويقول:  "أن لكل طالب وجوده الخاص والتام ونكهته الخاصة"...."وعبقه الأصيل"،  "لكل طالب يجلس أمامك شخصيته المتميزة وأن له طبائعه الخاصة".  ومن الملفت للنظر انه لا يتعاط مع هذه الكلمات كشعار بل يعيشها فها هو، وعلى الرغم من مرور السنين، يستذكر صفات عينية لطلاب رافقهم بمسيرتهم الحياتية.  وها هو يطير فرحا "لأنك شهدت البشارة... البشارة بمولد شاعر[4]."

بَيْد أنّ حبّه لا يمنعه من الحزم مع أعز طلابه, والحزم أحد السّلوكيّات المهمّة جداً في االتّربية الحديثة.

 

التعامل بجدية واحترام  وتقبل مع كل طالب

من منطلق المسؤولية إمام طلابه وإبداعاتهم يتعامل معهم بكل جدية "فلعل في أحدهم بذرة لشاعر أو نواة لأديب!"؟  كما يقدر معلمنا أهمية "الوعي لمشاعر الذّات ولمشاعر الآخرين وإعطاء الحرّية للتعبير عنها وتقبّلها".  فيشاركنا الأستاذ المعلم أنه كان يميل إلى الدعابة مع طلابه، فيتعامل بمرح معهم ويتحول إلى صديق أو زميل لهم في بعض الأحيان، "فالطلاب أصدقاء لك"،  "يفرح لانجازاتهم" ولكنه عندما يسيء إلى أحدهم يعترف ويقر أن "البادي أظلم"  وهذا ما جعله ليس فقط أستاذ جيد وناجح بل مستشارا لطلابه حتى في قضايا الحبً.

 

 

الحياة مدرسة:

وعلى الرغم من أن أستاذنا لم يتدرب في دور المعلمين أو الجامعات فكلية إعداد المعلمين كانت مدرسة العزير المدرسة الأولى التي علم بها ثم عين الأسد، والرامة ولكنه أيضاً أدرك ما يؤكده اليوم التربويين الكبار أن الحياة مدرسة،

"كل شيخ منهم سنديانة وكتاب.

سنديانة لا تبخل بفيء وكتاب لا يمن بعطاء."

...

"وكتاب هو الشاهد الأمين على التاريخ المهدد، يوم تبعثرت الحقيقية في مهاب الكذب والزوبعة."

 

وفي مكان أخر يستذكر "فالجد فضل وأصدقائه الشيوخ مدرسة أغنت معلوماتك وعرفتك على كثير من الحقائق والناس، فكم من درس تعلمته منهم، من هؤلاء الحكماء الذين عركتهم الحياة فأصلبت عودهم وعركوها فازادوا حكمة ونضجاً.. والحياة كتاب يتدفق حكمة وعطاء".

 

 

والمدرسة مجتمع

البعض يعتقد إن مهمة المعلم هي داخل جدران المدرسة، ومعلمنا رأى ما شدد عليه الخبراء في التربية التحررية أن الحياة مدرسة وان المدرسة مجتمع ولتعزيز العلاقة بين المدرسة والمجتمع بادر مع طلابه إلى تأسيس مكتبة من المجتمع وتبرعاته وبذلك ادخل البيوت إلى المدرسة من خلال الكتب التي تبرع بها بعض الأهالي وادخل المدرسة إلى كل بيت في المجتمع من خلال الكتب التي رافقت الطلاب إلى بيوتهم[5].

ويقف معلمنا على دور الأهل في العملية التربوية وأهمية التكامل ما بين المدرسة والبيت  فهل كان يؤسس إلى نموذج المدرسة الجماهيرية؟ أو هل وقف يومها على أهمية التكامل في المسارات التربوية وأهمية التوافق بين جميع الأطراف؟؟

 

الشَّراكة في التعلّم: 

فالتعلّم ليس فقط من المعلِّم إلى طلابه بل هو أيضاً يتعلَّم وتدفعه تجربته إلى التعلّم المستمر. "فالشراكة صادقة وحميمية"  "في هذه المدرسة علمك طلابها كيف تكون معلما.." "هم الذين بادروا، وهم الذين علموك!!"  ومنكم من سيقول شعار جميل ولكن معلمنا يشرح " علموك ذلك بتجاوبهم العفوي البريء" الدرس الأول.....المحبة"  

 الشراكة في الهموم أيضاً  "فنراه يبادر إلى بناء مكتبة في المدرسة من خلال جمع التبرّعات ...."والشراكة صادقة وحميمة في السرّاء والضّرّاء".

 

 

التّغيير والتّجديد:

العمل في التّربية والتّعليم في زمن التّحدِّيات الأولى:

" حيث الكتاب نادر،

 المنهاج غادر

 والمعلِّم حائر."

يجد المربي شكيب السّبيل فيتملَّص من الرَّقيب "النمَّام"، ويخادعه ليسير بين النّقط ويحاول أن يقدِّم لطلاّبه "ما يرغبون فيه وما ترغب فيه أنت ويتحايل على المنهاج، ويقدِّم نماذج من الّلغة والأدب ليتعرَّفوا على أدبهم تعرّفاً واعياً وأميناً."

 

والمعلم باحث ومتعلم مستمر فهو "يحرص على البحث عن المصادر والتعلم المستمر بصبر ومثابرة" "وأخذت تبحث في كل مكان، وفي كل قصاصة ورق، عما يغني معلوماتك وعما يوفر لك معرفة أكثر....وأخذت تبحث وتبحث وتبحث...!"  ويكشف لنا سر المعلم الناجح بهذه المثابرة على التعلم المستمر.... "المعلم لا يكرر نفسه أبداً، كما أن الماء لا يظل هو الماء ذاته في مسيرة النهر الخالدة"،  و"أن النص الأدبي يتغير" شكلا ودلالة، مع تغيير الطالب ومع تغيير الزمن كذلك"، "إن الأجيال تتجدد وتجددك معها".   كما ويحرص استاذنا ويهتم بالمحافظة على نجاحاته مع طلابه ويدفعه هذا النجاح للمزيد من الجهد. 

 

هذه إشارة مجددة أيضا إلى النهج الفعال الذي اعتمده معلمنا فهو لا يلقن بل يتحاور مع طلابه لذا فالطالب يصبح فاعلا متفاعلا وليس مفعول به متلقي سلبي.

 

التّربية الإنسانيّة تقرّ بأهمّيّة التّجديد والتّغيير في التّربية لتعميق المسؤولية الذّاتية، وهو ما يتبنّاه أستاذنا ليس فقط التغيير والتّجديد من أجل التّغيير، بل من أجل جعل المنهاج والمضامين قريبة إلى قلب الطلاّب مما يزيد من دافعيّتهم للتّعلّم.

 

"تزدادون إيماناً بأنَّ واجبكم المقدَّس أن تعطوا طلاّبكم غاية ما تستطيعون في هذا الواقع المعقَّد.. والحقل المليء بالأشواك، تؤمنون إيماناً لا أثر فيه للتّردّد، أنَّ الإنسان هو الذّخيرة وهو الأساس الطّالب أوّلاً والمعلِّم ثانياً".

 

 

النقد الذاتي

مبدأ أخير اعتمده معلمنا وهو الاستشفاف والنقد الذاتي فتوثيق التجربة بحد ذاتها مليء بالنقد الذاتي والاستشفاف خاصة عندما يبحث عن الطالب الذي ضاع.  وعندما يراجع سلوكه خاصة عندما "يثقلها" على احد الطلاب فهو يمارس النقد الذاتي البناء.

 

 

وأخيرا   فأنني على ثقة أن مراجعة ميراث الشاعر سيظهر جوانب أخرى للمدرسة الشكيبية.

 



[1] من كتاب شكيب جهشان: على شوق لأيام غوال: لقطات من مفكرة معلم" إصدار الشاعر 2001

[2] عرضت هذه الورقة بشكلها الأولي في ذكرى وفاة الشاعر واليوم عدت اليها ووسعت الدراسة لتصبح مراجعة في فكر الشاعر المعلم شكيب جهشان

[3]  راجعوا الكتاب صفحة 40-42

[4]  الأشارة الى الشاعر محمود درويش (نبيلة)

[5]  راجعوا الكتاب صفحة 43-46