ولم تسكت شهرزاد...

 

كمّ مِنْ مرّة تساءلتُ: كيف للشّعب اليهوديّ، الّذي عانى الأمرّين من النازية، أن يستطيع ممارسة كلّ هذا الإضطهاد ضدّ الشّعب الفلسطينيّ؟  وهل مَن يعاني مِنْ أمرٍ ما يمتنع عن ممارسته ضدّ آخر؟ وهل يكفي أن أعاني من أمرٍ ما لكيّ أمتنع عن ممارسته ضدّ الآخر، أيًّا كان هذا الآخر؟

طبعًا الجواب معقّد فكيفيّة تعاملي مع الأمر ترتبط بعدّة عوامل، فكوني ضحيّة يمكن أن يولّد لديّ رغبة بالإنتقام وقد أتماهى مع مضطهدي وأجِد له الأعذار فهو "لم يقصد" أو "معه حقّ فأنا أذنبت" أو "لم أفهم ما يريد" أو ما الى ذلك من تبريرات. ويمكن أن أنكر وأستمرّ في الحياة وكأنّ شيئًا لم يكن، وقد أصبّ جامَ غضبي على شخص أضعف  منّي بدل المعتدي (فشّة غلّ)وممكن وممكن.  لهذا كوننا عانينا أو كونهم عانوا لا يمنعهم من ارتكاب جرائم الحرب ضدّ شعبنا وكوننا أقصينا وكبتنا لا يمنعنا من ممارسة الإضطهاد والإقصاء على الآخرين أو الغير مرغوب بهم أو المختلفين أو، أو....

فالأمر يتعلّق بالمنظومة القيميّة الّتي بلورتها أو تبنّيتُها لذاتي، يتعلّق بوعي وبسبل تعاملي مع حياتي فمنّا مَنْ يتبنّى القدر ومنّا من يلقي اللّوم على الآخر أو الظّروف ومنّا من يأخذ مسؤوليّة على حياته، ويحاول فهم دوره/ا ومنّا من يرتاح في دور الضّحيّة فيشكو ويبكي ويذوّت قهره أو دونيّته.  فأيّ نهج نتبنّى ليس وليد صدفة، بلّ هو انعكاس لوعي.

والنّهج التحرّري لا ينكر واقع التّمييز والغبن الحاصل، بلّ يحلّله ليس فقط لفهمه بلّ لتطوير آلياّت لتغييره والنّهج التّحرّري يوفّر إمكانية لأخذ مسؤوليّة ذاتيّة والعمل كلّ حسب قدراته وامكانياته و لا يفصل بين القضايا، ولا يستطيع وضع أولوياّت فهو بفحص مستمرّ لتحديد استراتيجيّات التّحرّك على الجبهات المختلفة فلا يمكننا القول الآن: نحرّر الوطن ومن ثمّ نحرّر النّساء، وهل يمكن تحرير الوطن دون تحرير النّساء؟

قال لي أاحدهم يومًا "أنا ثوريّ". فنظرت مستفهمة فقال أنا ثوريّ ولكن بموضوع النّساء أنا رجعيّ! فلم أنظر مستفهِمة بلّ مستهجنة: كيف لثوريّ أن يكون رجعيًّا بأيّ قضيّة؟ ساعدوني يا رفاقي: هل يمكن لثوريّ أن يكون رجعيًّا؟   

النّهج التّحرّري لا يستطيع تقبّل هرميّة الحقوق أو هرميّة القضايا، وهو يحاول نسف هرميّة التّهميش وهرميّة المعاناة . فقبول هرميّة الحقوق تجعل هرميّة التّهميش واقعًا، فإنْ قبِلنا مثلاً  حقّ تقرير المصير كحقّ من حقوق الإنسان، وأنّه أهمّ من حقّ الإنسان بالحرّيّة أو من حقّ المرأة على جسدها، قبِلنا بتهميش الحقّين الأخيرين ووضع الحقّ الأوّل فوقهما،  كما وقبِلنا معاناة الفرد النّاتجة عن عدم تمتّعه من حقّ تقرير المصير نتيجة للإحتلال مثلاً بأنّها أهمّ من معاناته نتيجة لقمعه وعدم مقدرته على التّعبير عن رأيه، بلّ لبرّرنا استخدام وسائل القمع من السّلطة الوطنيّة مثلا تجاهه. فهو يعبّر برأيٍ ناقد إلى أصحاب السّلطة أيّ أنّه ينتقده وهذا ما يحدث وما حدث هنا، هناك، لدينا. هرميّة التّهميش وهرميّة المعاناة هي أداة سياسيّة تحافظ على سيطرة الاقوياء وتمنع الضّعفاء من التّعاضد والنّضال المشترك.

 

فالمعاناة الّتي يشعر بها كلّ من سُلِب حقّ من حقوقه تجعله متمركزًا بألمه ومعاناته ويتقوقع بداخل شرنقته، ولا يفهم كيف أنّهم لا يرون معاناته!  وفي قوقعته يقاوم ويقاوم ولا يجد مخرجًا، إذ أنّ الأقوياء متّحِدون وهو بقوقعته متوحّد مع المتقوقعين بالشّرنقة نفسها، ومع المدّة يفقد الثّقة بقدرته على الخروج من الشّرنقة ويبني دون وعي بنية هرميّة تعكس البنية الّتي يعاني منها وناضل من أجل القضاء عليها. بنية هرميّة داخل الشّرنقة تؤدّي إلى المزيد من التّشرذم الدّاخليّ  وهكذا دواليك..

تبنّي هرميّة الحقوق وهو تماهٍ مع المستعمر وتهدف إلى منع التّضامن مع النّضال المشترك، منع رؤية الخيوط الّتي تربط بين المّهمشات والمهمّشين،  فالأقوياء ليسوا أقوى من جميع الضّعفاء، إنّما يستخدمون قوّتهم ليبقى الضّعفاء مشرذمين كلّ في تهميشه وتقوقعه.

النّهج التّحرّري لا يفصل بين الحقوق و النّضالات ويرفض الشّرذمة والتّقوقع، بلّ يشبك جميع السّاحات وعلى جميع المستويات.

 

قبل عامين أو أكثر تلقّيت دعوة من مركز أبحاث رائد في مجتمعنا لحضور يوم دراسيّ عن تغييبنا  كفلسطينيّين. واحتوى برنامج اليوم الدّراسيّ على 14 متحدثًا جميعهم رجال. فسآلت كيف يمكن نقاش التّغييب مِنَ المجتمع اليهوديّ وممارسة التّغييب ضدّ 51% من الفلسطينيّين موضوع التّغييب أيّ النّساء الفلسطينيّات؟  وعندما عبّرت عن احتجاجي جاءني جواب يزيد من التّغييب.

على مرّ سنوات نضالي حاربت التّغييب: تغييبنا كفلسطينيّين، تغييبنا كنساء، تغييب قضايانا الحارقة عن جدول الأعمال المؤسّساتيّ.

ومنذ أن بدأت مسيرتي هذه، أيّ قبل أكثر من 30 عامًا، إتّضح لي عمق الإسكات والإخراس الّذي نعاني منه. فرأيت كيف أنّ فتيات عبقريّات يسكتن ويخرسن ويفرض عليهنّ التزام البيت، إلى أن يأتي ابن الحلال.. وإن لم يأتِ، ماذا يحدث يقبعنَ في البيوت ويدخلن إلى ما يطلق عليه المجتمع مصطلح "عانس". والعنوسة ليست كلمة تعني فقط الفرع اليابس من الشّجرة الّذي يسهل كسره، بلّ العنوسة هي حالة نفسيّة ترافَقُ بشعور بالفراغ والفشل، (فشل في التقاط العريس) الإحباط وعدم القيمة، لذا نرى نساء في مقتبل العمر مستعدّات للزّواج مِن أيّ رجل يتقدّم لهن، كيف لا وقد ذوّتنَ الفكر الذّكوريّ بأنّ "ظلّ راجل ولا ظلّ حيطة" ومنهنّ من تستعدّ بالإقتران بعجوز أو حتّى متأخّر عقليًّا فقط لكيّ لا تبقى عانسًا. ورايت كيف مَن حاولت أن ترفض هذه الهندسة الإجتماعيّة وخرجت للعمل وصنعت لها حيّزًا في "عالم الرّجال"، ولم يستطيعوا خنق مبادرتها، فإنّهم يحاولون ضمّها إلى صفوفهم فتصبح مثل تلك النّساء "مسترجلات" "أخوات الرّجال" وما شابه من الصّفات.. وقد رأيت نساء يذوّتن هذه الصّفات إلى درجة التّماهي معها، وعدم مقدرتي على التّفريق: هل هي استراتيجيّة صمود في العالم الرّجوليّ أم هي تماهٍ مع القامع المخرِس الغير قادر على تقبّل امرأة تتحدّث بلغة أخرى وتقتحم عوالم مُنعت عنها.  وعندما وعيتُ لما أرى  قرّرتُ ان لا... لا صمت بعد الآن وبدأت المسيرة.

وحدث معي ما حدث لشهرزاد الّتي حاولت حماية نفسها وبنات جنسها عندما بدأت بالكلام.  عندما بدأت في الكلام لم تصمت، إلاّ لتنام وتستيقظ لتبدأ في الكلام. وكلما بدأت في السّرد كانت كأنّها تغلق بابًا لتفتح عشرة أبواب جديدة. وكلّ باب يفتح على أبواب جديدة أخرى، وكأنّها تقشّر بصلة طبقة بعد أخرى. وهكذا عملنا بدأنا بقصّتنا كاملة لم نُغفل منها حرفًا، ولكن كلّما توغّلنا في القصّة وكلّما اعتقدنا أنّنا تقدّمنا خطوة، وجدنا أنّنا نقف أمام طرق متشعّبة، فطوّرنا استراتيجيّات النّضال وأصبح لنا مؤسّسات متخصّصة، تعمل كلّ واحدة لسلك طريق جبليّة أو سهليّة أو تحفر الانفاق وتبني الملاجئ لحماية النّساء المعنّفات، أو تفتح خطًّا هاتفيًّا لتلقى النّساء على الطّرف الآخر من الخطّ أذنًا مصغية متفهّمة.  فتحنا الدّورات وأهّلنا مجموعات قياديّة ومبادرات استثماريّة ودورات تـأهيل مهنيّ ومرافعة وأبحاث، إستخدمنا استراتيجيّات متنوّعة وربطنا بين الشّخصيّ والسّياسيّ وجعلنا السّياسيّ شخصيًّا وامتهنّا الكلام وصرخنا باعلى صوتنا ضدّ قمعنا وقمع شعبنا، ووقفنا ودعمنا وكنّا في كلّ معركة نكتشف كمّ نحن بحاجة إلى المزيد من القوى لنسهم بمسيرة شعبنا نساءه ورجاله شيبه وشباّنه وأطفاله.

وفي هذا المسار مسار أقلّيّة وطن أبت أن تبقى ضحيّة، وسمعت صدى صوت من موروثنا "ما بحكّ جلدك غير ظفرك" وقلنا  "إن لم اكن لي من يكون لي؟"  فتكلّمت شهرزاد وأبدعت.  فجاءت مؤسّساتنا المهنيّة المختلفة الّتي أحدثت نقلة نوعيّة في معركتنا في هذا الوطن الّذي لا وطن لنا سواه.

أذكر قبل 15 سنة أن طلبت منّي صديقة أن التقي بقريبة لها، لكن في بيتي وليس في مكتبي.  في البداية لم افهم ما سر هذا التّكتّم ولم أفهم ما هي المشكلة، ولكنّني وثقت بأنّ هذه الصديقة لا بدّ أنّ لها أسبابها .. والتقينا، في التّاسعة ليلا جاءت الصّديقة وقريبتها ولم أحتَج للكثير فبعد دقائق من اللّقاء، إنفجرت القريبة  وتكلّمت، والّتي اعتقدت أنّها الوحيدة الّتي تعاني ما عانته من عنف داخل العائلة وأنّها الوحيدة المعنّفة، فقد اعتادت ان تقول لنفسها "خلّيها بالقلب تجرح ولا تطلع على اللّسان وتفضح"، وعندما "طلعت على اللّسان" وتوجّهت لأهلها قالوا لها في البداية "ضرب الحبيب زبيب"، ثمّ قالوا "إصبري.. أولادك وبيتك ورجلك".. فصبرت إلى أن تعب الصّبر منها.  

 

قبل 15 عامًا، لم يكن للنّساء العربّيات خطًّا يسمعهنّ ولا ملجأ يأويهنّ.   العديد من النّساء قتلن دون سبب سوى كونهنّ نساء أخرِسن وأسكِتن، غيّبنَ وأقصين عن مداركنا "فلا يعقل أنّ مثل هذه الحالات موجودة في مجتمعنا"، "هذه بدع من الغرب"..  وهكذا أيضا عندما فتحنا موضوع الإعتداءات الجنسيّة على الاطفال "غير معقول: أب يعمل هيك ببنته"  "شعبنا أحسن من هيك". وعندما فتحنا ملفّ جرائم الشّرف وكشفنا الخديعة الكبرى لقتل النّساء لكونهنّ نساء بتبريرات الشّرف من أناس لا شرف لديهم: فكيف يمكن أن يكون القاتل شريفًا؟ وبأيّ منطق يمكن

أن يعتبر قاتل ابنته أو أخته شريفًا؟. كشفنا أنّ جرائم الشّرف هي غطاء مجتمعيّ لإجرام متكرّر كما حدث لتلك الفتاة من إحدى قرى الشّمال والّتي اعتدى عليها أبوها جنسيًّا وهي طفلة، وعندما خطبت واقترب موعد زفافها خاف الأب ان ينكشف أمره فأحرقها وهي حيّة.. وقال شرف!! 

واليوم ونتيجة للجهود الجبّارة من مجموعات وجمعيّات نسائيّة طوّرت بنية تحتيّة لدعم النّساء اللاتي يحتجنَ إلى الدعم.  قالوا لنا هل انتهت القضايا حتّى تفتحوا/ نَ مثل هذه الملفّات؟ تابعنا فتح الملفات والعمل على جميع قضايا شعبنا وقضايا الأرض والمسكن، التّعليم والصّحّة، القرى المعترف بها وغير المعترف بها، قضايا الفقر والعمل، قضايا الهدم والبناء.. وقلنا لا يمكننا أن نبقى سلبيّين وغير مبالين لعذاب إنسان وإنسانة حتّى وإن كان واحدًا/ة فقضايا حقوق الإنسان/ة لا تتجزّأ وغير قابلة للفصل.  ولن نسمح بأن يأتي يوم تقول فيه إحداهنّ: "عندما قتلت فاطمة لم أحتجّ لأنني لم اكن فاطمة، وعندما قتلت فدوى لم أحتجّ لأنّني لم أكن فدوى، وعندما أتوا لاخذ علياء للذّبح، لم أحتجّ لأنّني لست بعلياء.. وعندما وقفوا امام بابي واستعدّوا لقتلي، لم أسمع صوتًا فأنا بقيت لوحدي". 

 

واليوم نحن بصدد صوتٍ جديد وتنظيم جديد بلغ من العمر خمس سنوات، على الرّغم من أنّ عمرها الزّمنيّ بعمر البشريّة وقديمة بقدم الزّمن: "أصوات: مثليّات نسويّات فلسطينيّات"، نهضت وانتفضت وقالت نحن هنا لا نقبل الإقصاء بعد اليوم، لا نقبل هرميّة الحقوق ولا نقبل أن نعيش في المنفى داخل وطننا،  لا نقبل تهميشنا وإخراسنا ولا نقبل أن نقضي مثل ما قضى رجال غساّن كنفاني، ولا نقبل أن يأتي يوم ليقول لنا "لماذا لم تدقّوا جدار الخزّان؟"  إنّنا ندقّ باب الخزّان، ندقّ أبوابَ خزّانات الإخراس والتّهميش والإقصاء والعنصريّة تمامًا، كما دققنا سويّة مع باقي أبناء شعبنا وما زلنا ندقّ باب خزّان الإحتلال والعنصريّة والتّمييز.

 فهل نتجاهل كمجتمع هذه الأصوات؟ هل نستطيع تغييبها وإقصاءها؟ وكيف يمكننا أن نقوم بالإقصاء والتّغييب، نحن اللاتي والّذين حاربوا ويحاربون الإقصاء والتّغييب المستمر علينا؟ كيف يمكننا أن لا نسمع صوت التّحرّر الآتي من "أصوات"؟