كان يا ما كان

 نبيلة اسبانيولي            

 

مقدمة للكتاب كان يا مكان تأليف نائله اسبانيولي

تتطور المجتمعات البشرية عبر العصور، وفي سياق هذا التطوّر يعزّز كل مجتمع بنية فكرية تتلاءم مع طبيعة المجتمع ومميزاته الأساسية.  تشمل هذه البنية الفكرية فلسفة حياتية مرتبطة بالواقع الاقتصادي، السياسي، الاجتماعي والجغرافي لهذا المجتمع وبالقوى الفاعلة أو المسيطرة ضمنه، وتنعكس هذه البنية الفكرية بالقيم والمعتقدات والعادات التي تسود المجتمع العيني.

إن مثل هذه البنى الفكرية تكون غير ثابتة فهي متغيرة بتغيير الواقع الاقتصادي، السياسي، الاجتماعي للمجتمع، وتتأثر أيضاً بتغيير القوى الفاعلة أو المسيطرة في داخل المجتمع.  كما وأنها تتغير بحكم الوعي عند الفرد في المجتمع، فالإنسان يتفاعل مع هذه القيم، المعتقدات والعادات ويمكنه أن يقرر عدم نقلها للأجيال أو أنه يدرك عدم جودتها في الحياة التي يعيشها، فيقرر عدم استعمالها والتوقف عنها.  إن مثل هذا السلوك الفردي بتراكمه يؤدي إلى تغيير مجتمعي أيضاً.

إذاً فإن الوعي هو أحد العوامل المهمة للتغيير، ولا يتمّ الوعي بمجرد قراءة كتاب أو مقالة، بل إنه مسار يرتبط أيضاً بالحياة فتغيير أسلوب الحياة يساهم في بلورة وعي جديد، مختلف ومتلائم مع الحياة أياً كانت.

من العوامل التي يمكنها أن تحثّ على تغيير الوعي هي المعرفة والإعتكاس، فنظرة ناقبة وناقدة إلى ما نحمله معنا من فكر مجتمعي جماعي تجعلنا نقف أمام المرآة لنقرر هل نحن راضون عما نحمل جماعياً.

يأتي هذا الكتاب ليكون مرآتنا:  هل نحن راضون عن القيم والمعتقدات والعادات التي حملها لنا الزمن؟

قامت الأخت نائلة لبس بعد جهدٍ جبّار بتجميع وكتابة وشرح الأمثلة، الأغاني والتهاليل ووضعتها بين أيدينا، فهذه المواد هي الإرث الثقافي الذي تمّ جمعه عبر الأجيال.

إن تفسير الأمثلة، الأغاني والتهاليل  بحسب الوظائف المجتمعية التي أفرزت من أجلها، يعكس ما تحمله من السياسة المجتمعية التي تسعى هذه الأمثلة، الأغاني والتهاليل إلى تكريسها.  فهل نستطيع نحن أن نتعامل مع هذا الكتاب ككتاب تأريخي؟ أو ما الهدف من هذا الكتاب؟ ولماذا نقوم نحن في مركز الطفولة بدعمه؟

لقد تبنّى مركز الطفولة منذ نشأته توجهاً مميزاً في التعامل مع إرثنا الثقافي المتعلق في الطفولة المبكرة، حيث أننا أدركنا مبكّراً أن ما تحمله نساءنا من موروث ثقافي غني جداً بالممارسات التي بنيت على تجارب حياتية معيشية، يمكننا أن نعتبره معرفة سليقية تطوّرت عبر الأزمان وتعاملنا بشكل نقدي مع هذه المركبات وسعينا إلى تدعيمها بتوفير التفسيرات العلمية لها وذلك بهدف إعادة الثقة بها وتدعيم النساء في المحافظة عليها وتجديدها.

ومن جهة أخرى فقد أدركنا أيضاً بأن هذا الإرث الثقافي مليئ بالأفكار النمطية والجنسوية (أي العنصرية المبنية على أساس الجنس) والمعتقدات الخاطئة.

من هنا فإننا نتعامل مع إرثنا الثقافي بشكل نقدي والنقد لا يعني الهدم كما يفهمه البعض بل أنه يعني التعامل المتمايز مع كل فكرة وعبرة وتجربة تنقل، ووضعها تحت المجهر لتعرية الوظائف المجتمعية التي طوِّرت من أجلها والقيم التي تسعى إلى توصيلها أيضاً.

لقد طوّرنا تعاملنا النقدي المبني مع إرثنا الثقافي بالإضافة إلى تجديده (أصالة وتحديث) ليصبح موروثاً ثقافياً للأجيال القادمة.

إن هذا الإرث الثقافي يتضمن عدة مركبات منها:

1) معارف وحكم شعبية.

2)      أفكار نمطية.

3)      أفكار خاطئة.

4)      أفكار ومعتقدات جنسوية.

5)      معلومات تاريخية، جغرافية.. وأفكار مجتمعية مختلفة.

 

معارف وحكم شعبية:

وهذه كثيرة خاصة المرتبطة بالطفولة المبكرة، وهنا نستطيع إدراج جميع الألعاب التي نقوم بها مع الأطفال وما تحمله من وظائف تربوية ونفسية ونمائية لأطفالنا، فعندما "نكاغي" أو نلعب "حطي زيت يا حجة" أو "بأعينو" أو ما إلى ذلك من ألعاب وأغانٍ فإننا:

1)      نتواصل مع الطفل ونتحدث معه، وهي أمور مهمة لتطوره في جميع المجالات.

2)      نطوّر عضلاته الصغيرة والكبيرة عند اللعب.  مثلاً:  "ياقريمشي" (عضلات صغيرة) "هودبع" (عضلات كبيرة).

3)   إننا نقوي وننمي قدراته الذهنية ونسهم بنموه العام، فعندما نلعب "البأعينو" فإننا نقوم بذلك في فترة حسّاسة من تطور الطفل (الشهر الخامس أو السادس) عندما يبدأ إدراك الطفل بالتوسع ولكنه لم يطور كفاية بعد إدراكه بثبات الشيء (أي بوجوده حتى وإن لم يرَه هو) فتأتي لعبة "البأعينو" لتسهم بنموه وإدراكه لثبات الشيء، فنحن نغيب ونعود ليرانا، فيتفرج الطفل ويضحك دلالة على راحته بعودتنا ونحن نعيد الكرّة لأننا أدركنا أنها لعبة مسلية أيضاً.

4)      نتمتع ونمتع الطفل بهذه الألعاب فجميعها تأتي بالراحة النفسية للطفل، فهو يتمتع بلعبه وبالانتباه الذي لاقاه منا أيضاً.

5)   جميع هذه التجارب تسهم في بناء الثقة الأساسية عند الطفل:  ثقته بمن حوله وبذاته.  وإذا وجدت بيئة داعمة فإنه سينمي رؤيته الذاتية الإيجابية عن نفسه   

         وعمن حوله.  إنها مساهمة في بلورة هويته الذاتية وشخصيته، فهو قادر      

         ويستطيع القيام بأعمال ويلقى الدعم ممن حوله..

 

هذه المعارف لم تنقل لنا بشكل مفصل بل نقلت عبر السلوكيات، تحليلنا لهذه السلوكيات في مركز الطفولة وربطها بمعارفنا العلمية من علم النفس النمو الحديث جعلنا ندرك أهميتها وأهمية تعزيزها، لذلك فإنها تنعكس في منشوراتنا المختلفة.

جميع هذا جعلنا نهتم في كل ما وُهب لنا من موروث ثقافي لنتناوله بالنقد والتحليل.

إن هذه الأمثال، التهاليل، العادات والأغاني لم تأتي صدفة، بل جاءت لِتَعكس تجارب البشر الذين عاشوا قبلنا وتنقلها لنا لتصبح حكمة شعبية يمكننا أن نفتخر بها ونحافظ عليها إذ إنها جزء من موروثنا الثقافي الذي يخدمنا ويحصّننا للتعامل مع الظروف الحياتية المختلفة. 

وهذه الحكم الشعبية تظهر دقة الملاحظة (المراقبة والملاحظة هما من طرق البحث العلمية الأولية) عند جدّاتنا وهن توارثنها وورثناها نحن لتخدمنا في حياتنا وهي بذلك يمكنها أن تماثل/توازي نتائج أبحاث علمية ميدانية.

فقولهن مثلاً "إبن ليلتو بعرف شيلتو" أي أن الطفل يولد ولديه القدرات الكامنة ليدرك ما يحدث معه، هذا القول مثبت من نتائج الأبحاث العلمية، أو "إن كبر إبنك خاويه" فهو أيضاً حكمة شعبية لو استرشدنا بها لوفّرنا الكثير من المشاكل العائلية والتربوية، بينما قولهن "الحبلى والمرضعة بتوكل قد أربعة" هو قول لا يقف أمام البحث العلمي فالطب يشدد على أهمية التغذية النوعية وليست الكمية قبل الحمل، خلاله وبعده بل على العكس فقد يوصي الطبيب المرأة الحامل بمراقبة ما تأكله وذلك لكي لا يزداد وزنها بشكل يصعب عليها الولادة، كما أن الطبيعة تلعب دورها فالجنين يتغذى عادة من مخزون الأم الغذائي أي أن غذاء الجنين غير مرتبط تماماً بما تأكله الأم مباشرة على الرغم من أن نوعية الأكل تؤثر على الجنين أيضاً.

من هنا نجد أن هنالك نوعين على الأقل من الأفكار والمعتقدات والعادات، نوع يتوافق مع معارفنا اليوم ومثل هذا النوع من المهم تعزيزه وتدعيمه ونوع آخر يتناقض مع معارفنا اليوم ومثل هذا النوع يجب شرحه وتفسيره لكي يستطيع كل واحد/ة فينا اتخاذ قراراته بناء على معرفته ولكي نسهم أيضاً في التغيير المجتمعي.  

 

أفكار نمطية:

مثل هذه الأفكار التي تعمم بعض التجارب لتصبح فكراً نمطياً مثل قولهم "ترباية الصبيان مثل قرط الصوان" إن هذا المثل يدل على الفكرة السائدة بأن هنالك اختلاف بين تربية الصبيان وتربية الفتيات وهذا أمر غير دقيق، فلا فرق بين تربية الفتيات والفتيان، فنحن من يصنع الفوارق من خلال توجهنا ومعتقداتنا، إن اعتقادنا بصعوبة تربية الفتى قد تؤدي إلى أزمة في تربيتنا له فهو صبي وتربيته صعبة بينما تعاملنا مع تربية الفتيات تكون بتهاون أكثر لذلك فإننا سنشعر بسهولة تربيتهن.

وقد توافقني العديد من الأمهات في إن التربية لفتى والفتاة على حد سواء بحاجة إلى جهد ووقت وهي صعبة بكل الأحوال.

إن الفكر النمطي الذي يكرّس العنف كقولهم "جافوهن تلاقوهن" أو "وفر العصا بتتلف الولد" هي بعض النماذج التي تعكس مثل هذا الفكر النمطي الذي يحتاج إلى تفكيك ونقد.

فكر نمطي آخر، هو الفكر الذي يعمّم فيجعل الأم الحنونة والأب الخشن بقولهم" الأبو بطفش والأم بتعشش" والسؤال:  هل كل أب بطفش لكونه أب؟ وهل كل أم بتعشش لكونها أم؟ الواقع أنه لا يمكننا التعميم، فهنالك آباء أحنُّ كثيراً من أمهات كثيرات والعكس صحيح، فلماذا هذا التعميم؟!

 

أفكار خاطئة:

وهي أفكار تنقل وكأنها حكم شعبية ولكنها مبنية على معرفة محدودة، وعند فحصها نجد العديد منها يحمل معتقدات وأفكار خاطئة.

منها الأفكار والنصائح التي تقدم للأهل حول العنف، وقد أثبتت الأبحاث مراراً وتكراراً أن العنف يعلِّم أمراً واحداً وهو العنف.  وأن الطفل الذي يواجه العنف منذ صغره سيستعمله في كبره ضد كل من هو أقل قدرة منه، وسيستعمله لحل مشاكله أي أنه سيدخله في مشاكل أكثر.. إن هذا الموضوع طويل، ولن أسهب في تفاصيله هنا، بل أكتفي فقط بلفتة نظر!

 

أفكار ومعتقدات جنسوية:

إن هذه الأفكار والمعتقدات تعج فيها الأمثلة والأغاني والتهاليل التي بينت أن مجتمعنا يرقص مرحاً عند قدوم الطفل الذكر وتحزن وتعاني لقدوم الأنثى,  وهي كلها معتقدات وأفكار وعادات تميز بين الذكر والأنثى وتقدّم أفكاراً (جنسوية) عنصرية ضد الذكر والأنثى كقولهن "يا ريت بعد هالشد جابت ولد" أو "دلل ابنك يغنيك ودلل بنتك بتخزيك" أو "الولد يا حراير شوشتو بأربع ضفاير".

وهناك العديد من الأقوال التي تحتاج إلى دراسة مفصلة حول هذه المعتقدات الجنسوية.

مثل هذه الأفكار تعكس التوقعات من الفتاة مثلاً فكل امرأة وظيفتها واحدة فقط وهي الزواج وإنجاب الأطفال ومن المفضل  أن يكونوا ذكوراً.  وإن لم تنجح في ذلك فمن الممكن أيضاً أن تنجب البنات "جيبوا بنات ولا تقعدوا بطالات" وفي حالة لم تقم بهذه المهمة فهنالك "عقاب" حل قطعها أي طلاقها، كما ونرى هنا أيضاً معتقدات حول التربية.

المعلومات الجغرافية، التأريخية والدينية هي معلومات مرتبطة بسياق القول، ونجدها في التهاليل وفي الأغاني المختلفة.

 

نظرة ثاقبة لكل ما ورد يظهر لنا وجود:-

1) تناقضات:

جميع هذه الأفكار والمعتقدات وما تحمله من قيم ومفاهيم، نجدها أحياناً متناقضة، فعند الحديث عن التربية:  فهناك توجيه للضرب والجفاء واستعمال العصا بينما هنالك توجيه آخر بأنه "عندما يكبر الولد خاويه" أو "كترة الشد بترخي" وما إليه من تناقضات أخرى. 

إن هذه التناقضات هي دلالة على وجود حركة-تغيير فالموروث الثقافي متجدد ومتغير التجارب المجتمعية المتجددة دائماً والمعارف المكتسبة والمتطورة، لذلك لا بد من التعامل النقدي مع جميع ما يحمله هذا الكتاب.

2) مجتمع رجالي:

على الرغم من أن الكثير من هذه الأفكار والمعتقدات تحمل فكراً رجالياً يكرّس

دونية المرأة، والتعامل المجتمعي مع الأنثى بشكّل حملاً ثقيلاً على عائلتها يجلب لهم المصائب:  "فهَمّ البنات للممات".  ولكننا نجد أيضاً أفكاراً ومعتقدات أفرزتها الحكمة النسائية وهي وسائل دفاعية أمام ظلم الرجل والمجتمع الرجالي "فالأم هي التي تلم.." بينما "الأب بطفش"..  وما إليه من أفكار قد تحمل صورتين لنفس العملة فمن ناحية نجدها تضع الإيجاب عند الأم ولكنها من ناحية أخرى مسؤولية ملقاة عليها.  فالنجاح للجميع بينما الفشل لها وحدها، فهي مسؤولة عن أولادها وبناتها وتربيتهم وهذا يحرر الأب من المسؤولية وهو أمر مسهَّل وله مرة أخرى.  كما وأن ذلك هو دلالة على التقسيم الوظيفي النمطي، فدور الأم في الداخل بينما دور الأب في الخارج.

 

تلخيص:

هنالك وظائف مجتمعية سياسية متعددة تقوم بها هذه الأغاني والتهاليل والأمثلة منها وظائف للفرد القائل في مثل هذه الحالة خاصة عندما يتعلق الأمر بالتهاليل، فقد ذكرت الكاتبة الوظائف التنفيسية وأهمية هذه التهاليل والأغاني للتعبير عما يسرد في داخل المرأة فهي إذاً آليّة نفسية استعملتها النساء للتخفيف من حدة المشاكل التي تواجهها.

ولكن لها أيضاً وظائف مجتمعية أهمها باعتقادي هي تلك التي تكرّس وتسعى إلى التثبيت والمحافظة على المجتمع كمجتمع ذكوري- بطريركي.. وهذه دعوة للباحثين والباحثات للقيام بأبحاث متعمّقة حول هذه الأفكار وتعريتها لكي نسهم في التغيير.

إن توثيق هذه المادة كان الخطوة الأولى في مسار البحث وقد قامت به الأخت نائلة مشكورة، ولكن هل انتهت المهمة؟ 

بالطبع لا، بل هي أهم خطوة إذ أنها بداية للتساؤل وللاختيار وللبحث وللتحليل. 

إذاً نستطيع التأكيد على وجود جزء من هذا الإرث ما زال حيّاً بيننا يؤثر على هوياتنا ويحدد للعديد منا مسار حياتهم.  لذلك فإنه من المهم التعامل النقدي مع هذا الموروث وإخراجه إلى النور لكي لا يبقى معششاً في العقول، ويكرّس المحافظة...

إنها دعوة لكل فرد فينا للنظر بشكل جيد إلى ما يوّثقه هذا الكتاب من فكر، قيم ومعتقدات وعادات شعبية، والاختيار بين المحافظة والتغيير.  وهذا ليس خياراً سهلاً ولا يحتاج أن يكون خياراً فكما ذكرت سابقاً تعاملنا النقدي في مركز الطفولة مَكّننا من إفراز ما يفيدنا من هذا الإرث لكي نعزّزه ونقوّيه بالمعارف العلمية لنخلق الجديد المبني على الأصالة والتحدّيث ليصبح لنا موروثاً ثقافياً جماعياً نعتز به وننمو معه.