لندق باب الخزان

نبيلة اسبانيولي

 

كم مرة سألت كيف للشعب اليهودي الذي عان الامريين من النازية أن يستطيع ممارسة كل هذا الاضطهاد ضد الشعب الفلسطيني؟  ٌ وهل من يعاني من امر يمتنع عن ممارسته ضد اخر؟ وهل يكفي أن اعاني من امر ما لكي امتنع عن ممارسته ضد الاخر, اي كان هذا الاخر؟

طبعا الجواب معقد فكيفية تعاملي مع الامر ترتبط بعدة عوامل فكوني ضحية يمكن ان يولد لدي رغبة بلانتقام وممكن ان اتماهي مع مضهدي واوجد له الاعذار فهو "لم يقصد" او "معه حق فانا اذنبت" او "لم افهم ما يريد" او ما الى ذلك من تبريرات وممكن ان انكر واستمر في الحياة وكأن شيئا لم يكن وممكن أن اصب جام غضبي بدل على المعتدي على شخص اضعف  مني (فشت غل)وممكن وممكن.  لذا كوننا عانينا او كونهم عانوا لا يمنعهم من ارتكاب جرائم الحرب ضد شعبنا وكوننا اقصينا وكبتنا لا يمنعنا من ممارسة الاضهاد والاقصاء للاخرين او الغير مرغوب بهم او المختلفين او أو....

فلامر يتعلق بالمنظومة القيمية التى بلورتها او تبنيتها لذاتي, يتعلق بوعي وبسبل تعاملي مع حياتي فمنا من يتبنى القدر ومنا من يلقي اللوم على الاخر او الظروف ومنا من ياخذ مسؤولية على حياته ويحاول فهم دوره/ا ومنا من يرتاح في دور الضحية فيشكي ويبكي ويذوت قهره او دونيته.  فاي نهج نتبنى ليس وليد صدفة بل هو انعكاس لوعي.

والنهج التحرري لا ينكر واقع التمييز والغبن الحاصل بل يحلله ليس فقط لفهمه بل لتطوير اليات لتغييره والنهج التحرري يوفر امكانية لاخذ مسؤولية ذاتية والعمل كل حسب قدراته وامكانياتها و لا يفصل بين القضايا ولا يستطيع وضع اولويات فهو بفحص مستمر لتحديد استراتيجيات التحرك على الجبهات المختلفة فلا يمكننا القول الان نحرر الوطن ومن ثم نحرر النساء وهل يمكن تحرير الوطن دون تحرير النساء؟

قال لي احدهم يوما انا ثوري فنظرت مستفهمة فقال انا ثوري ولكن بموضوع النساء انا رجعي! فلم انظر مستفهمة بل مستهجنة كيف لثوري ان يكون رجعي باي قضية؟ ساعدويني يا رفاقي هل يمكن لثوري ان يكون رجعيا؟   

النهج التحرري لا يستطيع تقبل هرمية الحقوق او هرمية القضايا وهو يحاول نسف هرمية التهميش وهرمية المعاناة . فقبول هرمية الحقوق تجعل هرمية التهميش واقع فان قبلنا مثلا ان حق تقرير المصير كحق من حقوق الانسان هو اهم من حق الانسان بالحرية او من حق المرأة على جسدها  قبلنا بتهميش الحقين الاخيرين ووضع الحق الاول فوقهما  كما وقبلنا ان معاناة الفرد الناتجة عن عدم تمتعه من حق تقرير المصير نتيجة للاحتلال مثلا اهم من معاناته نتيجة لقمعه وعدم مقدرته على التعبير عن رأيه بل لبررنا استخدام وسائل القمع من السلطة الوطنية تجاهه فهو يعبر برأي ناقد لاصحاب السلطة وهذا ما يحدث وما حدث هنا هناك لدينا. هرمية التهميش وهرمية المعاناة هي اداة سياسية تحافظ على سيطرة الاقوياء وتمنع الضعفاء من التعاضد والنضال المشترك.

 

فالمعاناة التى يشعر بها كل من سلب حق من حقوقه تجعله متمركز بالمه ومعاناته ويتقوقع بداخل شرنقته ولا يفهم كيف انهم لا يرون معاناته.  وفي قوقعته يقاوم ويقام ولا يجد مخرجا اذ ان الاقوياء متحدون وهو بقوقعته متوحد مع المتقوقعين بنفس الشرنقة ومع المدة يفقد الثقة بقدرته على الخروج من الشرنقة ويبني دون وعي بنية هرمية تعكس البنية التى يعاني منها وناضل من اجل القضاء عليها, بنية هرمية داخل الشرنقة تؤدي الى المزيد من التشرذم الداخلي  وهكذا دواليك

تبني هرمية الحقوق وهو تماهي مع المستعمر وتهدف الى منع التضامن منع النضال المشترك منع رؤية الخيوط التى تربط بين التهميشات والمهمشين  فالاقوياء ليسوا اقوي من جميع الضعفاء انما يستخدموا قوتهم ليبقى الضعفاء مشرذمين كل في تهميشه وتقوقعه.

النهج التحرري لا يفصل بين الحقوق وبين النضالات ويرفض الشرذمة والتقوقع بل يشبك في جميع الساحات وعلى جميع المستويات.

 

قبل عامين أو أكثر تلقيت دعوة من مركز أبحاث رائد في مجتمعنا لحضور يوم دراسي عن تغيبنا  كفلسطينيين, واحتوى برنامج اليوم الدراسي على 14 متحدث جميعهم رجال فسآلت كيف يمكن نقاش التغييب من قبل المجتمع اليهودي وممارسة التغييب ضد 51% من الفلسطيننين موضوع التغييب اي النساء الفلسطينيات؟  وعندما عبرت عن احتجاجي جائني جواب يزيد من التغييب.

على مر سنوات نضالي حاربت التغييب تغيبنا كفلسطينين تغيبنا كنساء تغيب قضايانا الحارقة عن جدول الاعمال المؤسساتي.

ومنذ ان بدأت مسيرتي هذه إي قبل أكثر من 30 عاما اتضح لي عمق الاسكات والاخراس الذي نعاني منه فرأيت كيف ان فتيات عبقريات تسكتنا وتخرسن ويفرض عليهن التزام البيت الى ان يأتي أبن الحلال وان لم يأتي ماذا يحدث تقبعنا في البيوت وتدخلنا الى ما يطلق عليه المجتمع مصطلح "عانس" والعنواسة ليست كلمة تعني الفرع اليابس من الشجرة الذي يسهل كسره بل العنوسة حالة نفسية ترافق بشعور بالفراغ والفشل (فشلت في التقاط العريس) الاحباط وعدم القيمة لذا نرى نساء في مقتبل العمر مستعدات لتزوج اي رجل يتقدم لهن كيف لا وقد ذوتنا الفكر الذكوري بان ظل راجل ولا ظل حيطة ومنهن من تستعد الاقتران بعجوز او حتى متأخر عقليا فقط لكي لا تبقى عانس, ورايت كيف من حاولت ان رفض هذه الهندسة الاجتماعية وخرجت للعمل وصنعت لها حيز في "عالم الرجال" ولم يستطيعون خنق مبادرتها يحاولون ضمها الى صفوفهم فتصبح مثل تلك النساء "مسترجلات" "اخوات الرجال" وما شابه من الصفات وقد رأيت نساء يذوتنا هذه الصفات الى درجة التماهي معها وعدم مقدرتي على التفريق هل هي استراتيجية صمود في العالم الرجولي ام هي تماهي مع القامع المخرس الغير قادر على تقبل أمرأة تتحدث بلغة اخرى وتقتحم عوالم منعت عنها  وعندما وعيت لما ارى  وقررت ان لا... لا صمت بعد  وبدأت المسيرة.

وحدث معي ما حدث لشهرزاد التى حاولت حماية نفسها وبنات جنسها عندما بدأت بالكلام.  عندما بدأت في الكلام لم تصمت الا لتنام وتستيقظ لتبدء في الكلام. وكلما بدأت في السرد كانت كانها تغلق باب لتفتح عشرة ابواب جديدة وكل باب يفتح على ابواب جديدة اخرى وكانها تقشر بصلة طبقة بعد أخرى. وهكذا عملنا بدأنا بقصتنا كاملة لم نغفل منها حرفا ولكن كلما توغلنا في القصة وكلما اعتقدنا اننا تقدمنا خطوة وجدنا أننا نقف أمام طرق متشعبة, فطورنا استراتيجيات النضال واصبح لنا مؤسسات متخصصة تعمل كل واحدة لسل طريق جبلية او سهلية او تحفر الانفاق وتبني الملاجئ لحماية النساء المعنفات او تفتح خطا هاتفيا لتلقى النساء على الطرف الاخر من الخط اذنا مصغية متفهمة.  فتحنا الدورات واهلنا مجموعات قيادية ومبادرات استتمارية ودورات تـاهيل مهني ومرافعة وابحاث استخدمنا استراتيجيات متنوعة وربطنا بين الشخصي والسياسي وجعلنا السياسي شخصي وامتهنا الكلام وصرخنا باعلى صوتنا ضد قمعنا وقمع شعبنا ووقفنا ودعمنا وكنا في كل معركة نكتشف كم نحن بحاجة الى المزيد من القوى لنسهم بمسيرة شعبنا نسائه ورجاله شيبيه وشبلنه واطفاله.

وفي هذا المسار مسار أقلية وطن أبت ان تبقى ضحية وسمعت صدى صوت من ميراثنا "ما بحك جلدك غير ظفرك" وقلنا  "ان لم اكن لي من يكون لي"  فتكلمت شهرزاد وابدعت.  فجاءت مؤسساتنا المهنية المختلفة التى احدثت نقلة نوعية في معركتنا في هذا الوطن الذي لا وطن لنا سواه.

اذكر قبل 15 سنة ان طلبت مني صديقة ان التقي بقريبية لها, ولكن في بيتي وليس في مكتبي.  في البداية لم افهم ما سر هذا التكتم ولم افهم ما هي المشكلة ولكنني وثقت ان هذه الصديقة لا بد ان لها اسبابها ... والتقينا, في التاسعة ليلا جاءت الصديقة وقريبيتها ولم احتاج للكثير فبعد دقائق من اللقاء انفجرت وتكلمت القريبية  والتى اعتقدت انها الوحيدة التى تعاني ما عانته من عنف داخل العائلة وانها الوحيدة المعنفة فقد اعتادت ان تقول لنفسها خليها بالقلب تجرح ولا تطلع على اللسان وتفضح وعندما طلعت على اللسان وتوجهت لاهلها قالوا لها في البداية ضرب الحبيب زبيب ثم قالوا اصبري اولادك وبيتك ورجلك ..... فصبرت الى ان تعب الصبر منها  

 

قبل 15 عاما لم يكن للنساء العربيات لا خط ليسمعهن ولا ملجئ لتأويهن.   العديد من النساء قتلن دون سبب سوى كونهن نساء أخرسن وصمتنا غيبنا وأقصين عن مداركنا "فلا يعقل ان مثل هذه الحالات موجودة في مجتمعنا", "هذه بدع من الغرب"  وهكذا ايضا عندما فتحنا موضوع الاعتداءات الجنسية على الاطفال "غير معقول: أب يعمل هيك ببنتوا"  "شعبنا أحسن من هيك" وعندما فتحنا ملف جرائم الشرف وكشفنا الخديعة الكبرى لقتل النساء لكونهن نساء بتبريرات الشرف من قبل اناس لا شرف لديهم فكيف يمكن ان يكون القاتل شريف؟ وباي منطق يمكن ان يعتبر قاتل أبنته أو أخته شريف؟ كشفنا ان جرائم الشرف هي غطاء مجتمعي لاجرام متكرر كما حدث لتلك الفتاة من احدى قرى الشمال والتى اعتدى عليها ابيها جنسيا وهي طفلة, وعندما خطبت واقترب موعد زفافها خاف الاب ان ينكشف امره فأحرقها وهي حية وقال شرف!! 

واليوم ونتيجة للجهود الجبارة من قبل مجموعات وجمعيات نسائية طورت بنية تحتية لدعم النساء اللواتي بحاجة الى الدعم.  قالوا لنا هل انتهت القضايا حتى تفتحوا مثل هذه الملفات, تابعنا فتح الملفات والعمل على جميع قضايا شعبناو قضايا الارض والمسكن التعليم والصحة القرى المعترف بها والغير معترف بها قضايا الفقر والعمل قضايا الهدم والبناء.... وقلنا لا يمكننا ان نبقى سلبين وغير مبالين امام عذاب انسان انسانة حتى وان كان واحد/ة فقضايا حقوق الانسان/ة لا تتجزء وغير قابلة للفصل.  ولن نسمح بان ياتي يوم تقول به احداهن:"عندما قتلت فاطمة لم احتج لانني لم اكن فاطمة وعندما قتلت فدوى لم احتج لانني لم اكن فدوى وعندما اتو لاخذ عليا للذبح لم احتج لانني لست بعليا وعندما وقفوا امام بابي واستعدوا لقتلي لم اسمع صوتا فانا بقيت لوحدي" 

 

واليوم نحن بصدد صوت جديد وتنظيم جديد بلغ من العمر خمس سنوات على الرغم من ان عمرها الزمني بعمر البشرية وقديمة بقدم الزمن "اصوات: مثليات نسويات فلسطينيات" نهضت وانتفضت وقالت نحن هنا لا نقبل الاقصاء بعد اليوم, لا نقبل هرمية الحقوق ولا نقبل ان نعيش في المنفى داخل وطننا,  لا نقبل تهميشنا واخراسنا ولا نقبل ان نقضي مثل ما قضى رجال غسان ولا نقبل ان يأتي يوم ليقول لنا "لماذا لم تدقوا جدار الخزان؟"  اننا ندق بابا الخزان ندق بابا خزانات الاخراس والتهميش والاقصاء والعنصرية تماما كما دققننا سوية مع باقي ابناء شعبنا وما زلنا ندق باب خزان الاحتلال والعنصرية والتمييز.

 فهل نتجاهل كمجتمع هذه الاصوات؟ هل نستطيع تغيبيها واقصائها؟ وكيف يمكننا ان نقوم بلاقصاء والتغييب نحن اللواتي واللذين حاربوا ويحاربون الاقصاء والتغييب المستمر لنا؟ كيف يمكننا ان لا نسمع صوت التحرر الاتي من اصوات؟